مقدمة
الحمد لله الذى أرسل رسله ، وأنزل عليهم شرائعه ، وجعل العلماء الأولياء هم ورثتهم . والصلاة والسلام على من هو الإنسان الكامل ، والأدب الخالص ، الذى لم يورث دينارا ولا درهما ، وإنما ورث العلم والدين ، فمن أخذهما فهو على ميراثه صلى الله عليه وسلم .
وبعد : فهذه رسالة لطيفة فى آداب السادة الشاذلية التى ربى مولانا الشيخ عبد القادر عوض الشاذلى مريديه عليها ، وهى تناظر الرسالة الأخرى التى جمعتها فى آداب السادة النقشبندية .
والمقصود منهما أن أبين صورة الطريق فى القرن الخامس عشر الهجرى ، وأبين ما أدركنا عليه مشايخنا من الآداب والعمل ، وقد جريت فى هذه الرسالة ونظيرتها على طريقة سيدى العارف عبد الوهاب الشعرانى فى التأليف بحسب الواقعة والخاطر والحال والوارد ، دون تقيد بصنعة تأليفية .
وإنما أجمع فيه ما وجدت مشايخنا عليه بالفعل ، ولست أذكر فيه شيئا منقولا من بطون الكتب ، بل أريد أن يكون رصدا واقعيا للطريق فى قرننا هذا دون زيادة على ذلك .
والحكمة الباعثة على جمعه هو إظهار فضل مشايخنا أولا ، وبيان أن الطريق ما زال بخير ، وفيه مشايخ أكابر يشغلون المريد بما يرقيه فى مقامات الرجال ، مع التزامهم التام بالكتاب والسنة ، وجعلهما الميزان الدائم لكل صغير أو كبير من أمورهم ، والتنزه عن البدع والمحدثات ، وإكثارهم الإنكار على ذلك ، وبيانهم أن ما يقع من المنتسبين إلى التصوف من ذلك هو أمر خارج الشرع ، وإنكارهم أيضا على المعارضين للطريق بجهل وغباوة ، دون أن يتبينوا الصواب والحق من خلال ملاقاة أكابر المشايخ الصادقين العالمين العاملين .
فهذا الرسالة ونظيرتها كالميزان للمنتسبين للتصوف ، والمنكرين عليه ، على السواء .وقد أخذ سيدنا الشيخ عبد القادر عوض الشاذلى المولود (سنة 1922 م) الطريق عن سيدى أحمد العيسوى المتوفى (عصر السبت 26 صفر 1385 هـ - 26 / 6/ 1965م ، والمولود فى 21 / 4 / 1904م) والقائم ضريحه بالمنصورة بمسجده الشهير ، عن سيدى العدوى (ت 1360 هـ) والقائم ضريحه بالمنصورة بجوار مسجد القهوجى بسوق الحدادين ، عن سيدى جمال الدين بن سيدى أبى المحاسن القاوقجى (ت 1344 هـ) القائم ضريحه بالقاهرة بجبانة المجاورين ، عن سيدى العلامة المحدث العارف أبى المحاسن القاوقجى (ت 1305 هـ) ، عن سيدى محمد البهى ( ت 1260 هـ ) والقائم ضريحه بطنطا بالميدان الأحمدى قريبا من مسجد سيدى أحمد البدوى .

الأربعاء، ٢٤ أكتوبر ٢٠٠٧

24- ومن آدابهم التى رأينا عليها سيدى عبد القادر : تفويضهم أمر المريدين إلى الله تعالى

1- ومن آدابهم التى رأينا عليها سيدى عبد القادر : تفويضهم أمر المريدين إلى الله تعالى إذا بذل معهم غاية النصح ، ورباهم غاية التربية ، وذلك وراثة محمدية لقوله تعالى {لست عليهم بمسيطر} ، {وما أنت عليهم بجبار} ، والصبر على تربيتهم جدا ، والحلم عليهم عند خروجهم عن الآداب جدا . وقد رأيت سيدى عبد القادر مشهدا ذقت فيه الحكمة التى أشار إليه العلماء من أن الله تعالى لم يرسل نبيا إلا رعى الغنم ، وذلك لشدة انتشار الغنم يمينا ويسارا وميلها الدائم إلى ترك الطريق الجادة إلى غيرها ، ففى هذا المشهد الآتى رأيت المريدين – فما بالك بعامة الناس – كذلك حقا كالغنم الشاردة فى كل وجه ، بحيث لا يمكن أن يجمعها إلا الله وهنا يظهر بحق معنى التفويض لله والتسليم له بأن الجامع والمفرق والموفق لسعى الراعى إنما هو الله وحده . والموقف الذى رأيت فيه هذا المشهد أننا ذهبنا منذ عدة سنوات كما هى العادة سنويا فى أوائل الصيف إلى زيارة سيدى أبى العباس المرسى ومن حوله من الأولياء بالأسكندرية ، وبعد أن نفرغ من الزيارة والغداء يسمح لنا سيدنا الشيخ عبد القادر بوقت يأخذ فيه الكل راحته قبل الرجوع ، ويعطينا موعدا نجتمع فيه للعودة ، وفى الموعد تأخر اثنان منا جدا لأزيد من ساعة ، وكثر اللغط للغاية ، وكلف سيدنا الشيخ بعض الأحباب بالبحث عنهما فذهب أكثر ممن كلفهم فزاد عدد الغائبين ، ثم صار كل واحد يطرح رأيا رأيين ثلاثة كما شاء له الكلام ، ولو كنا مائة فأظن أن لغط الآراء ربما تعدى الألف ، وصار هرج كبير ، وخرج عامتنا عن الأدب إلا ثلاث منا أو أربع ، ولم يلتفت الأغلب لتنبيهات سيدنا الشيخ بعدم الانتشار ، وبلزوم الهدوء والاشتغال بالله ، ورأيت سيدنا الشيخ قد تحلى الصبر التام ، والحلم على الأحباب ، ولم يضجر منهم ، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، وحسبى الله ونعم الوكيل ، وينظر إلى وأنظر إليه ونعجب من حال الناس ، وسألنى أكثر من مرة : ما رأيك فى الحال الذى نحن فيه . فابتسم وأسكت ، وينكشف المعنى من ذلك فى باطنى فأنظر إليه فأجده يتبسم . وبعد قرابة الساعتين ظهر هذان الشاردان فأقبلا ومن حولهما من الأحباب يصيحون بهم ، فما زاد سيدنا الشيخ أن تبسم لهما وقال : حمدا لله على السلامة . وصرت أتعجب من هذا المشهد فإن الأحباب فى العادة على غير ذلك السلوك ، وقد سافرت معهم كثيرا ، ومرت بنا مواقف أصعب وأحرج من ذلك ، فلم يقع منهم ما وقع فى ذلك اليوم ، فلله الأمر .

الثلاثاء، ٢ أكتوبر ٢٠٠٧

23- ومن آدابهم التى رأينا عليها سيدى عبد القادر : غلبة الزهد والتقشف

ومن آدابهم التى رأينا عليها سيدى عبد القادر : غلبة الزهد والتقشف ، وترك التوسع فى ملاذ الدنيا ، وهذا الأدب من أهم آداب الطريق ، على أن للقوم فى الزهد مشارب مختلفة ، وليسوا فيه على مشرب واحد كما يظن بعض الناس ، فمن الأولياء الذين رأيناهم من لا يبالى بالاتساع فى الدنيا إذا وسعها الله عليهم فيوسعون على أهاليهم ومريديهم ويتأنقون فى الملبس والمأكل لكنهم لا يبالون بها إذا زالت عنهم ولا يتأففون ولا يتضجرون ، وهذا هو محك الزهد الحقيقى : عدم التعلق القلبى بالدنيا . ومنهم من يكون زهده فيها على مشرب سيدنا الشيخ عبد القادر نفعنا الله به من عدم التعلق القلبى بها ، ثم يزيدون على ذلك بأخذ الحد الأدنى منها فيلبسون مثلا الملابس الجميلة اللائقة بحالهم النظيفة الجيدة ، لكن دون التأنق للغاية ، مع قدرتهم على ذلك لكن يدعونه زهدا ويقتصرون على الحد الأدنى منه ، وكذلك يأكلون ويشربون من المطاعم والمشارب ما دون الاتساع والتفنن فى ألوان الطعام وفاخره مع القدرة على ذلك ، لكنهم يدعونه زهدا ويقتصرون منه على الوسط . وكلا المشربين له أصل من السنة النبوية الشريفة ، كما يعلم ذلك من اطلع على أحوال النبى صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الأغلب من أحواله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الدنيا وإيثار الفقر على الغنى .